فصل: قال الثعالبي في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال أبو عبيد القاسم بن سلاّم: وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه همّ بها، وهم أعلم بالله وبتأويل كتابه، وأشدّ تعظيمًا للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم.
وقال الحسن: إن الله عز وجل لم يذكر معاصي الأنبياء ليعيرهم بها؛ ولكنه ذكرها لكيلا تيأسوا من التوبة.
قال الغزنويّ: مع أن لزلة الأنبياء حِكَمًا: زيادة الوجل، وشدّة الحياء بالخجل، والتخلّي عن عجب العمل، والتلذذ بنعمة العفو بعد الأمل، وكونهم أئمة رجاء أهل الزلل.
قال القُشيريّ أبو نصر: وقال قوم جرى من يوسف همّ، وكان ذلك (الهم) حركة طبع من غير تصميم للعقد على الفعل؛ وما كان من هذا القبيل لا يؤخذ به العبد، وقد يخطر بقلب المرء وهو صائم شرب الماء البارد، وتناول الطعام اللذيذ، فإذا لم يأكل ولم يشرب، ولم يصمم عزمه على الأكل والشرب لا يؤاخذ بما هجس في النفس؛ والبرهان صرفه عن هذا الهمّ حتى لم يصر عزمًا مصممًا.
قلت: هذا قول حسن؛ وممن قال به الحسن. قال ابن عطية: الذي أقول به في هذه الآية إن كون يوسف نبيًا في وقت هذه النازلة لم يصح، ولا تظاهرت به رواية؛ وإذا كان كذلك فهو مؤمن قد أوتي حُكمًا وعلمًا، ويجوز عليه الهمّ الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة؛ وإن فرضناه نبيًا في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهمّ الذي هو خاطر، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حلّ تِكّته ونحوه؛ لأن العصمة مع النبوّة.
وما روي من أنه قيل له: تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء فإنما معناه العِدَة بالنبوّة فيما بعد.
قلت: ما ذكره من (هذا) التفصيل صحيح؛ لكن قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} يدلّ على أنه كان نبيًّا على ما ذكرناه، وهو قول جماعة من العلماء؛ وإذا كان نبيّا فلم يبق إلاّ أن يكون الهمّ الذي همّ به ما يخطر في النفس ولا يثبت في الصدر؛ وهو الذي رفع الله فيه المؤاخذة عن الخلق، إذ لا قدرة للمكلَّف على دفعه؛ ويكون قوله: {وَمَا أُبَرِّئ نفسي} إن كان من قول يوسف أي من هذا الهمّ، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع والاعتراف، لمخالفة النفس لما زكّي به قبل وبريء؛ وقد أخبر الله تعالى عن حال يوسف من حين بلوغه فقال: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} على ما تقدّم بيانه، وخبر الله تعالى صدق، ووصفه صحيح، وكلامه حق؛ فقد عمل يوسف بما علمه الله من تحريم الزّنى ومقدماته، وخيانة السيد والجار والأجنبي في أهله؛ فما تعرّض لامرأة العزيز، ولا أجاب إلى المراودة، بل أدبر عنها وفرّ منها؛ حكمة خص بها، وعملًا بمقتضى ما علّمه الله.
وفي صحيح مسلم عن أبي هُريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جَرَّاي» وقال عليه السلام مخبرًا عن ربه: «إذا همّ عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة» فإن كان ما يهم به العبد من السيئة يكتب له بتركها حسنة فلا ذنب؛ وفي الصحيح: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تَكلّم به» وقد تقدّم.
قال ابن العربي: كان بمدينة السلام إمام من أئمة الصوفية، وأيّ إمام يعرف بابن عطاء! تكلمّ يومًا على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه؛ فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال: يا شيخ! يا سيدنا فإذًا يوسف همّ وما تَمَّ؟ قال: نعم! لأن العناية من ثَمَّ.
فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلم، وانظر إلى فطنة العامي في سؤاله، وجواب العالم في اختصاره واستيفائه؛ ولذلك قال علماء الصوفية: إن فائدة قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلمًا} إنما أعطاه ذلك إبان غلبة الشهوة لتكون له سببًا للعصمة.
قلت: وإذا تقررت عصمته وبراءته بثناء الله تعالى عليه فلا يصح ما قال مُصْعَب بن عثمان: إن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجهًا، فاشتاقته امرأة فسامته نفسها فامتنع عليها وذكّرها، فقالت: إن لم تفعل لأشهرنك؛ فخرج وتركها، فرأى في منامه يوسف الصديق عليه السلام جالسًا فقال: أنت يوسف؟ فقال: أنا يوسف الذي هممتُ، وأنت سليمان الذي لم تهمّ؟ فإن هذا يقتضي أن تكون درجة الولاية أرفع من درجة النبوّة وهو محال؛ ولو قدّرنا يوسف غير نبي فدرجته الولاية، فيكون محفوظًا كهو؛ ولو غلقت على سليمان الأبواب، وروجع في المقال والخطاب، والكلام والجواب مع طول الصحبة لخيف عليه الفتنة، وعظيم المحنة، والله أعلم.
قوله تعالى: {لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} أن في موضع رفع أي لولا رؤية برهان ربه والجواب محذوف لعلم السامع؛ أي لكان ما كان.
وهذا البرهان غير مذكور في القرآن؛ فرُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن زليخاء قامت إلى صنم مكلّل بالدرّ والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال: ما تصنعين؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني في هذه الصورة؛ فقال يوسف: أنا أولى أن أستحي من الله؛ وهذا أحسن ما قيل فيه، لأن فيه إقامة الدليل.
وقيل: رأى مكتوبًا في سقف البيت: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].
وقال ابن عباس: بدت كفّ مكتوب عليها: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10] وقال قوم: تذكر عهد الله وميثاقه.
وقيل: نودي يا يوسف أنت مكتوب في (ديوان) الأنبياء وتعمل عمل السفهاء؟! وقيل: رأى صورة يعقوب على الجدران عاضًا على أنملته يتوعده فسكن، وخرجت شهوته من أنامله؛ قاله قَتادة ومجاهد والحسن والضّحاك وأبو صالح وسعيد بن جُبير.
وروى الأعمش عن مجاهد قال: حلّ سراويله فتمثل له يعقوب، وقال له: يا يوسف! فولّى هاربًا.
وروى سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جُبير قال: مثل له يعقوب فضرب صدره فخرجت شهوته من أنامله؛ قال مجاهد: فولد لكل واحد من أولاد يعقوب اثنا عشر ذكرًا إلا يوسف لم يولد له إلا غلامان، ونقص بتلك الشهوة ولده؛ وقيل غير هذا.
وبالجملة: فذلك البرهان آية من آيات الله أراها الله يوسف حتى قوي إيمانه، وامتنع عن المعصية.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء} الكاف من: {كَذَلِكَ} يجوز أن تكون رفعًا، بأن يكون خبر ابتداء محذوف، التقدير: البراهين كذلك، ويكون نعتًا لمصدر محذوف؛ أي أريناه البراهين رؤية كذلك.
والسوء الشهوة، والفحشاء المباشرة.
وقيل: السوء الثناء القبيح، والفحشاء الزنى.
وقيل: السوء خيانة صاحبه، والفحشاء ركوب الفاحشة.
وقيل: السوء عقوبة الملك العزيز.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: {المخلِصين} بكسر اللام؛ وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله.
وقرأ الباقون بفتح اللام، وتأويلها: الذين أخلصهم الله لرسالته؛ وقد كان يوسف صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين؛ لأنه كان مخلِصًا في طاعة الله تعالى، مستخلَصًا لرسالة الله تعالى. اهـ.

.قال الثعالبي في الآيتين:

قوله سبحانه: {وراودته التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ}: المراودة: الملاطفةُ في السُّوق إِلى غرضٍ، و: {التي هُوَ فِي بَيْتِهَا} هي زُلَيْخَا امرأةُ العزيز، وقوله: {عَن نَّفْسِهِ}: كنايةٌ عن غرض المواقعة، وظاهرُ هذه النازِلة أنها كانَتْ قبل أنْ ينبَّأ عليه السلام، وقولها: {هَيْتَ لَكَ}: معناه: الدُّعاء، أيْ: تعالَ وأقْبِلْ عَلَى هَذا الأمْرِ، قال الحَسن: معناها: هَلُمَّ، قال البخاريُّ: قال عكرمةُ: {هَيْتَ لَكَ} بالحُورَانِيَّةِ: هَلُمَّ.
وقال ابن جُبير: تَعَالَهْ، انتهى.
وقرأ هشام عن ابن عامرٍ: {هِئْتُ لَكَ}- بكسر الهاءِ والهمزِ وضمِّ التاء-، ورويت عن أبي عَمْرو، وهذا يحتملُ أنْ يكون من هَاءَ الرجُلُ يَهِيءُ، إِذا حَسُن هيئته، ويحتمل أنْ يكون بمعنى: تَهَيَّأَتُ، و: {مَعَاذَ}: نصب على المصدر، ومعنى الكلام: أعوذ باللَّهِ، ثم قال: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}، فيحتمل أن يعود الضمير في {إِنه} على اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ويحتمل أنْ يريد العزيزَ سيِّدَهُ، أي: فلا يصلح لي أنْ أخونه، وقد أكْرَمَ مثواي، وائتمنني، قال مجاهد وغيره: {رَبِّي} معناه سَيِّدي وإِذا حفظ الآدميّ لإِحسانه فهو عمل زَاكٍ، وأحرى أن يحفظ ربه، والضمير في قوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ} مرادٌ به الأمر والشأن فقطْ، وحكى بعض المفسِّرين أنَّ يوسُفَ عليه السلام لمَّا قال: مَعَاذَ اللَّهِ، ثم دافَعَ الأمْرَ باحتجاج وملاينةٍ، امتحنه اللَّه تعالى بالهَمِّ بما هَمَّ به، ولو قال: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلا باللَّهِ، ودافَعَ بِعُنْفٍ وتغييرٍ، لم يَهمَّ بشيء من المَكْروه.
وقوله سبحانه: {وَهَمَّ بِهَا}: اختلف في هَمِّ يوسُفُ.
قال * ع *: والذي أقولُ به في هذه الآية: أَنَّ كَوْنَ يوسُفَ عليه السلام نبيًّا في وقت هذه النازلة لم يصحَّ، ولا تظاهَرَتْ به روايةٌ، فإِذا كان ذلك، فهو مؤمنٌ قد أوتِيَ حكمًا وعلمًا، ويجوز عَلَيْه الهَمُّ الذي هو إِرادةُ الشيْءِ دون مواقَعَتِهِ، وأنْ يستصحب الخَاطِرَ الرديءَ؛ علَى ما في ذلك من الخطيئة، وإِن فرضْنَاه نبيًّا في ذلك الوقْتِ، فلا يجوز عليه عندي إِلاَّ الهَمُّ الذي هو الخاطرُ، ولا يصحُّ عندي شيْءٌ مما ذكر من حَلِّ تِكَّةٍ، ونحوِ ذلك؛ لأنَّ العِصْمة مع النبوَّة، وللَهمِّ بالشيْءِ مرتبتانِ، فالخاطرُ المجرَّد دون استصحاب يجوزُ عليه، ومع استصحابِ لا يَجُوزُ عليه؛ إِذ الإِجماع منعقدٌ أَنَّ الهمَّ بالمعصية واستصحابَ التلذُّذ بها غير جائزٍ، ولا داخِلٍ في التجاوُزِ.
* ت *: قال عياضٌ: والصحيحُ إِن شاء اللَّه تنزيهُهُمْ أيضًا قبل النبوَّة مِنْ كُلِّ عيْبٍ، وعصمتُهُم مِنْ كُلِّ ما يوجبُ الرَّيْب، ثم قال عياضٌ بعد هذا: وأما قولُ اللَّه سبحانه: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}، فعلى طريق كثيرٍ من الفقَهَاء والمحدِّثين؛ أنَّ همَّ النفْس لا يؤاخذ به، وليس بسيِّئة، لقوله عليه السلام عن ربِّه:
«إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ»؛ فَلاَ مَعْصِيَةَ في همه إِذَنْ، وأما علَى مذهب المحقِّقين من الفقهاء والمتكلِّمين، فإِن الهمَّ إِذا وُطِّنَتْ عليه النفْسُ سيئةٌ، وأَما ما لم توطَّن عليه النفس مِنْ همومها وخواطرها، فهو المعفوُّ عنه، وهذا هو الحقُّ، فيكون إِن شاء اللَّه هَمُّ يوسُفَ من هذا، ويكونُ قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي...} [يوسف: 53]: أي: مِن هذا الهَمِّ، أو يكون ذلك مِنْهُ على طريق التواضُع. انتهى.
واختلف في البُرْهَان الذي رآه يوسُفُ، فقيل: ناداه جبريلُ: يا يوسُفُ، تَكُونُ في ديوانِ الأنبياءِ، وتفعلُ فِعْلَ السفهاءِ، وقيل: رأَى يعقوبَ عَاضًّا علَى إِبهامه، وقيل غير هذا، وقيل: بل كان البرهَانُ فِكْرَتَهُ في عذابِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ على المعصية، والبرهانُ في كلام العرب: الشيء الذي يُعْطِي القطْعِ واليَقِينَ، كان مما يَعلَمُ ضرورةً أو بخبرٍ قطعيٍّ أو بقياسٍ نظريٍّ و{أنْ} في قوله: {لَوْلا أَن رَّأَى} في موضع رفعٍ، تقديره: لولا رؤيته برهانَ رَبِّه، لَفَعَلَ، وذَهَبَ قومٌ إِلى أَنَّ الكلامَ تَمَّ في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}، وأن جواب {لولا} في قوله: {وَهَمَّ بِهَا}، وأن المعنى: لولا أنْ رأَى البرهان لَهَمَّ، أي: فلم يهمَّ عليه السلام، وهذا قولٌ يردُّه لسانُ العربِ، وأقوالُ السلَفِ * ت *: وقد ساقَ عيَاضٌ هذا القولَ مساق الاحتجاج به متَّصلًا بما نقَلْناه عنْه آنفًا، ولفظه: فكيف، وقَدْ حكَى أبو حاتمٍ عن أبي عُبَيْدة، أن يوسف لم يَهِمَّ، وأنَّ الكلام فيه تقديمٌ وتأخير، أي: ولقد همَّتْ به، ولولا أنْ رأَى برهانَ ربه لَهَمَّ بها، وقد قال اللَّه تعالى عن المرأة: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} [يوسف: 32]، وقال تعالى: {كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء}، وقال: {مَعَاذَ الله...} الآية. انتهى. وكذا نقله الداودي ولفظه: وقد قال سعيدُ بْنَ الحَدَّاد: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، ومعناه: أنه لولا أنْ رأَى برهان ربِّه لَهَمَّ بها، فلمَّا رأى البرهان لم يَهِمَّ، انتهى. قال ابن العربيِّ في (أَحكامه): وقد أخبر اللَّه سبحانه عن حالِ يوسُفَ من حين بلوغه بأنه آتاه حكمًا وعلمًا، والحُكْم: هو العمل بالعلم، وكلامُ اللَّه صادِقٌ، وخبره صحيحٌ، ووصفه حَقٌّ، فقد عَمِلَ يوسُفُ بما عَلَّمه اللَّه من تحريم الزنا، وتحريم خيانةِ السيِّد في أهْله، فما تعرَّض لامرأةِ العزيز، ولا أناب إِلى المُرَاودة، بل أَدْبَرَ عنها، وَفَّر منها؛ حِكْمَةٌ خُصَّ بها، وعملٌ بما علَّمه اللَّه تعالى، وهذا يطمس وُجُوهَ الجَهَلَةِ مِنَ النَّاس والغَفَلَةِ من العلماءِ في نسْبتهم إِلى الصِّدِّيقِ ما لا يليقُ، وأقلُّ ما اقتحموا مِنْ ذلك هَتْكُ السراويلِ، والهَمُّ بالفَتْكِ فيما رَأَوْهُ من تأويلٍ، وحاشاه من ذلك، فما لهؤلاء المفسِّرين لا يكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا؛ يقولون: فَعَلَ فَعَلَ، واللَّه تعالى إِنما قال هَمَّ بها، قال علماء الصوفيَّة: إِن فائدة قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا...} [يوسف: 22] أن اللَّه عزَّ وجلَّ أعطاه العلْمَ والحكْمة؛ بأن غلب الشهوة؛ ليكون ذلك سببًا للعصْمَة، انتهى.
والكافُ من قوله تعالى: {كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء}: متعلِّقةٌ بمضمرٍ، تقديره: جَرَتْ أفعالنا وأقدارنا كذلك؛ لنصرفَ، ويصحُّ أن تكون الكافُ في موضِعِ رفعٍ بتقديرِ عصمَتَنا له كَذَلك، وقرأ ابن كثير وغيره: {المُخْلِصِينَ}- بكسر اللام- في سائر القرآن، ونافع وغيره بفَتْحها. اهـ.

.بحث بعنوان: عصمة الأنبياء:

للشيخ محمود غريب
سيدّنا يوسف عليه الصّلاة والسّلام:
قال تعالى في سورة يوسف آية 24: {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لايفلح الظالمون} وقال تعالى: {ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} [يوسف: 25].
مع قصة الطهر الخالدة، ومع النبيّ المظلوم، سيدّنا يوسف عليه الصّلاة والسّلام نعيش هذا اللقاء.
{وراودته التي هو في بيتها عن نفسه}
لم يذكر القرآن اسمها وعبر عنها بقوله تعالى: {التي هو في بيتها}
لماذا؟
أولا: لأن المقصود هو الجانب الرمزي في القصة.
وأعني به صراع الخطيئة والعفاف.
ثانيا: ليعلمنا القرآن أدب الحديث.
فنذكر أسماء العظماء ونعرض عن أسماء الخاطئين حتى لا نفضحهم فتموت جرائمهم في مهدها.
ثالثا: إشارة من القرآن إلى أن يوسف في بيتها وهي آمرة له وناهية.
فإذا عصى أمرها فيما يغضب الله كان هذا فخرا للأخلاق ودرّة في تاجها.
{وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي انه لا يفلح الظالمون}.
لم يكن تغليقها للأبواب هو أول ما خطر لها ولكن ذلك جاء بعد صراع طويل عاشته امرأة العزيز بين كبرياء منصبها ورغبة جسدها... فإذا أعلنت عن رغبتها السافرة فقد انهزمت كبرياؤها ولم يبق سوى متعة الجسد لذلك تجمع كل وسائل الأغراء وتقدمها بلا سبب إلى شباب يوسف {هيت لك} هيئت لك.
{قال معاذ الله} أعيذ نفسي بالله أن افعل ما يغضبه.
{انه ربي أحسن مثواي}
فكيف أقابل نعمه بالمعصية؟!
{انّه لايفلح الظالمون} الذين يحاربون الله بنعمه.
وهنا شعرت امرأة العزيز أنها خسرت كل شيء لذلك دخلت مع يوسف مرحلة أخرى أرادت بها أن تتخلص منه أو ترغمه على طلبها بعنف.
{ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين}.
بقي أمام امرأة العزيز سلاح القوة فهمّت بيوسف تريد الانتقام منه.
وهمّ بها يريد الانتقام لكرامته.
{لولا أن رأى برهان ربه} لقتلها هذا الفهم مقبول لأنه يصّور حال امرأة العزيز النفسية، ولأن اللغة العربية- لغة القرآن- تؤيده لأنّها تستعمل كلمة همّ فلان بفلان أي أراد قتله قال تعالى: {إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم} [المائدة: 11].
وفي الحديث الشريف: «فهمّ الصحابة بالرجل» أي أرادوا قتله، فمنعهم النبيّ صلّ ياربّ عليه وآله وبارك وسلّم كما تحبه وترضاه وفي الشعر:
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي ** وهمّوا بقتلي يا بثين لقوني

وهناك فهم آخر للآية الكريمة- ارتاح له- علينا أن نعرف كلمة همّ فإذا عرفناها معرفة صحيحة فهمنا الآية الكريمة بكل يسر فما معنى: {همّ}؟
الهمّ أيها القارئ الكريم- هو درجة من درجات الخواطر النفسية والخواطر النفسية خمس درجات:
1- الهواجس.
2- الخواطر.
3- حديث النفس.
4- الهمّ.
5- العزم.
وكلها انفعالات نفسية لا دخل للإنسان فيها ولا يحاسب عليها إلا إذا قام بتنفيذها بعد ذلك.
ننظر إلى الآية الكريمة فنرى المرأة همّت به ثم نفذت همّها، بل وأصرت على طلبها، فقالت للنسوة: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجننّ وليكونن من الصاغرين} [يوسف: 32].
فهي لم تقف عند الهمّ، ولكنّها شرعت في التنفيذ، وأصرت على موقفها.
أمّا يوسف فهمّه شعور في نفسه، أعقبه اعتصام بالله ولجوء إليه.
{قال رب السّجن أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه} [يوسف: 33] فالفارق بين الهمين كبير أمّا برهان الله فقد تأثر كثير من المفسرين بما نقلوه من الإسرائيليات ففسروا برهان الله على أهوائهم فقالوا: رأى يوسف جبريل عليه السّلام يضربه على صدره ويقول له لا تفعل فعل السّفهاء...وقالوا: انّه رأى صورة يعقوب عليه السّلام يعض على إصبعه.
وقالوا: انّه رأى لوحة كتب عليها.
{لا تقربوا الزنا انّه كان فاحشة وساء سبيلا}.
كل هذه الآراء لا دليل لها، والذي ارتاح له أن برهان الله تعالى هو النور الذي يقذفه في قلوب المؤمنين يفرقون به بين الحق والباطل.
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} [الأنفال: 29].
فالبرهان هو الفرقان، ومعنى رؤية البرهان أي العلم به.
وذلك لأن القرآن يستعمل الرؤيا في العلم في بعض الآيات.
قال تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر} [الحج: 18]
وقال تعالى: {ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض} [المجادلة: 7]
وواضح من هذه الآيات أن معنى قوله تعالى: {ألم تر} أي ألم تعلم فما علينا لو فسرنا القرآن وتركنا تلك الأقوال التي لا دليل عليها ولا سلطان، وذلك حتى لا نخطئ فهم القرآن. اهـ.